تأتي العدالة كأحد القيم العليا التي نصبو إليها، ولأجل تحقيقها لا بد من مؤسسات قضائية تضمن نزاهة الإجراءات واستقلالية السلطة القضائية. في هذا السياق، يمثل المجلس الأعلى للقضاء في المملكة العربية السعودية الجهة الإدارية المسؤولة عن توجيه شؤون القضاء والإشراف على تنظيمه وإدارته، لضمان توفير قضاءٍ مستقل وعادل يحمي الحقوق ويصون المصالح العامة.
أولاً: مشروعية المجلس الأعلى للقضاء وتأليفه
تعود مشروعية وجود جهة إشرافية على القضاء إلى الشريعة الإسلامية، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي بين الناس، وتبعه في ذلك الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم. ومع توسع الدولة الإسلامية، برزت الحاجة إلى هيئة تشرف على القضاة، مما أدى إلى إنشاء منصب “قاضي القضاة” لضمان النزاهة والعدالة. في هذا السياق، أنشأ النظام السعودي المجلس الأعلى للقضاء بموجب نظام القضاء لعام 1428هـ، ليكون الإشراف على القضاء ضمن اختصاصات هذا المجلس، الذي يؤلف من رئيس المحكمة العليا وأعضاء آخرين من كبار القضاة والمسؤولين القانونيين، بحيث يبلغ عددهم أحد عشر عضواً.
تكوين المجلس الأعلى للقضاء
يتألف المجلس من رئيس يُعيّن بأمر ملكي، إلى جانب أعضاء يمثلون نخبة من كبار المسؤولين القضائيين، مثل رئيس المحكمة العليا، وأربعة قضاة بدرجة رئيس محكمة استئناف. كما يضم المجلس وكيل وزارة العدل ورئيس هيئة التحقيق والادعاء العام، إلى جانب ثلاثة أعضاء آخرين، يتم اختيارهم وفق شروط تعيين قضاة الاستئناف. ويأتي هذا التشكيل ليعكس حرص النظام السعودي على تجميع نخبة من ذوي الخبرة القانونية لضمان أداء المجلس الأعلى للقضاء لمهامه بفعالية ومهنية.
ثانياً: اختصاصات المجلس الأعلى للقضاء
يتمتع المجلس الأعلى للقضاء بصلاحياتٍ قانونية متشعبة، حيث يتولى النظر في كافة الشؤون المتعلقة بالوظائف القضائية؛ إذ يختص المجلس بمتابعة تعيين القضاة، وترقيتهم، وتأديبهم، وإجازاتهم، وتدريبهم، وضمان حسن سيرهم في أداء مهامهم. كما يتولى إصدار اللوائح المتعلقة بالشؤون الوظيفية للقضاة، بعد موافقة الملك، إلى جانب إصدار لائحة التفتيش القضائي، التي تمثل أداةً فعّالة لمتابعة الأداء وضمان الجودة في العمل القضائي.
ومن ضمن اختصاصات المجلس، إنشاء محاكم الدرجة الأولى ومحاكم الاستئناف، وفق الحاجة ووفق التقسيم المعتمد لنظام المحاكم، ما عدا المحكمة العليا، التي تعدّ مستقلة وتحت إشراف مباشر من رئاسة المجلس. كذلك، يختص المجلس بالإشراف على المحاكم والقضاة وأعمالهم، وضمان تهيئة بيئة قضائية مثالية، من حيث توفير التجهيزات والموارد اللازمة.
كما يقوم المجلس بتسمية رؤساء محاكم الاستئناف ومساعديهم، ورؤساء محاكم الدرجة الأولى، وهو ما يعزز من انضباط الهيكل القضائي وتنظيمه وفق احتياجات النظام السعودي. كذلك، يعمل المجلس على وضع قواعد تنظم اختيار القضاة وشروط تفريغهم للدراسة، وتنظيم أعمال الملازمين القضائيين لضمان وصول المؤهلين إلى السلك القضائي.
ثالثاً: إعداد التقارير السنوية والمقترحات
يُعد المجلس الأعلى للقضاء تقريرًا سنويًا يتضمن الإنجازات التي تحققت خلال العام، ويشير إلى المعوقات التي واجهها، مقترحًا الحلول المناسبة، ويُرفع هذا التقرير إلى الملك. يعكس هذا الإجراء حرص النظام السعودي على إشراك الجهات العليا في متابعة الشؤون القضائية والتفاعل مع المقترحات التي قد تسهم في تطوير القطاع القضائي.
رابعاً: إدارة المجلس الأعلى للقضاء
يترأس المجلس رئيسٌ من خارج السلك القضائي، وتُعقد اجتماعات المجلس كل شهرين، ويجوز عقد اجتماعات طارئة متى ما استدعت الحاجة. تكون قرارات المجلس صادرة بالأغلبية، ويقوم المجلس بمهامه في إطار ميزانية مستقلة، ما يعزز استقلاليته المالية والإدارية، ويُبعده عن أي تأثير خارجي.
إن المجلس الأعلى للقضاء، باعتباره الجهة العليا المنظمة للقضاء، يمثل حجر الزاوية في الحفاظ على استقلالية القضاء وضمان نزاهة وعدالة الأحكام القضائية في المملكة. وبهذا، فإن المجلس ليس مجرد هيئة إدارية، بل هو تجسيد لروح العدالة واستقلالها، مستنيراً بنهج الشريعة الإسلامية وقيمها الراسخة في تحقيق العدالة وصون الحقوق.
نسقه واعده الأستاذ/ ماجد بن عايد خلف العنزي