العدول في الشريعة الإسلامية وأثره على مسؤولية الجاني
مقدمة
تتميز الشريعة الإسلامية بشموليتها وعدالتها، حيث تراعي الظروف المحيطة بالأفعال البشرية بما يضمن تحقيق التوازن بين تحقيق العدالة والرحمة. ومن الأحكام التي تظهر هذا التوازن، مفهوم “العدول” في سياق الجرائم والعقوبات. العدول يُعبِّر عن التراجع عن ارتكاب جريمة قبل إتمامها، وهو مفهوم ذو أبعاد شرعية وقانونية، حيث يترتب عليه آثار مباشرة على المسؤولية الجنائية للجاني.
مفهوم العدول في الشريعة الإسلامية
العدول يعني تراجع الجاني عن تنفيذ جريمة خطط لها، سواء كان هذا التراجع بإرادته الحرة (العدول الاختياري) أو نتيجة عوامل خارجة عن إرادته (العدول الاضطراري).
• العدول الاختياري: يحدث عندما يقرر الفاعل طواعية التوقف عن تنفيذ الفعل الجرمي قبل أن تتحقق نتيجته.
• العدول الاضطراري: يحدث نتيجة أسباب خارجية تحول دون إتمام الجريمة، كالتعرض للعجز أو تدخل طرف آخر.
الشريعة الإسلامية تنظر إلى العدول من زاوية تحقيق العدالة ومقاصد العقوبات، حيث يتم التمييز بين النية والإرادة والتنفيذ الفعلي، مما يجعل للعدول أثراً مهماً على تحديد العقوبة.
أثر العدول على المسؤولية الجنائية
العدول يؤثر بشكل مباشر على العقوبات المترتبة على الجريمة، وذلك حسب نوع الجريمة وطبيعة العدول. الشريعة الإسلامية تفرّق بين الجرائم الحدّية (الحدود)، وجرائم القصاص والجنايات، والجرائم التي تستوجب التعزير.
1. الجرائم الحدّية:
تشمل الجرائم التي لها عقوبات محددة في النصوص الشرعية مثل السرقة، الزنا، شرب الخمر، والحرابة.
• إذا عدل الجاني بإرادته:
• في السرقة: إذا دخل السارق منزلًا لكنه خرج دون أن يأخذ شيئًا، يُعفى من حد السرقة لأنه لم يكتمل الفعل.
• في الزنا: إذا توقف الجاني قبل وقوع الإيلاج، لا يُقام عليه الحد، لأن الجريمة لم تستوفِ أركانها.
• إذا كان العدول اضطراريًا:
• لا يُعتبر شافعًا للجاني إذا ثبتت نيته، وتُطبق العقوبة إذا اكتملت شروط الجريمة.
2. جرائم القصاص والجنايات:
تتعلق هذه الجرائم بالقتل والجروح وما يماثلها، حيث ترتبط بمبدأ “النفس بالنفس”.
• العدول الاختياري:
إذا قرر القاتل التوقف عن تنفيذ الجريمة قبل أن تتحقق النتيجة، فإنه يُحاسب على الجناية التي ارتكبها إن وُجدت (مثل محاولة الضرب)، ولا يُحاسب على القتل.
مثال: إذا حاول شخص قتل آخر وتوقف قبل إزهاق روحه، فإن الجناية لا تصل إلى حد القصاص.
• العدول الاضطراري:
في حال تدخل طرف خارجي لمنع الجريمة، يتحمل الجاني المسؤولية الكاملة عن الجريمة التي اكتملت أركانها.
3. الجرائم التعزيرية:
التعزير يتعلق بالأفعال التي لم تُحدد لها عقوبة في النصوص الشرعية، وإنما تُترك لتقدير الحاكم.
• العدول الاختياري:
يشجع القضاء الإسلامي التائبين ويخفف عنهم العقوبات التعزيرية، حيث يُنظر إلى العدول كعلامة على التوبة والرجوع إلى الحق.
• العدول الاضطراري:
قد لا يُؤخذ بعين الاعتبار في إسقاط العقوبة لأنه لم ينبع من إرادة حرة.
العدول والتوبة في الشريعة الإسلامية
الشريعة الإسلامية تحثّ على التوبة وتعتبرها فرصة لتصحيح المسار. إذا كان العدول عن الجريمة ناتجًا عن نية صادقة في التوبة والرجوع إلى الله، فإن ذلك يُمكن أن يُسقط العقوبة في بعض الحالات، لا سيما الجرائم الحدّية.
• في جرائم مثل الحرابة، إذا تاب الجاني قبل القبض عليه، فقد تُسقط العقوبة وفقًا لقوله تعالى: “إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ” (المائدة: 34).
• التوبة لا تُسقط حقوق العباد مثل الدية أو التعويضات المالية، لأنها تُعنى بحقوق الآخرين.
التطبيقات العملية لمفهوم العدول
1. في السرقة:
إذا دخل شخص منزلًا بنية السرقة ولكنه شعر بالخوف وخرج دون أخذ شيء، فإنه لا يُقام عليه حد السرقة.
2. في القتل:
إذا رفع الجاني سلاحًا على شخص بقصد القتل لكنه تراجع قبل الإضرار بالمجني عليه، فلا يُحاسب على القتل، بل يُعاقب حسب تعزير الحاكم.
3. في الحرابة:
إذا تاب المحارب قبل القبض عليه، فإن العقوبة الحدّية قد تُسقط، ولكنه يُلزم برد الحقوق المالية أو الممتلكات.
رؤية الفقهاء للعدول
• الشافعية: يرون أن العدول الاختياري يُعتبر دليلًا على التوبة، ويجب تشجيعه من خلال تخفيف العقوبات أو إسقاطها إذا كان ذلك ممكنًا.
• الحنفية: يميزون بين الجريمة المكتملة وغير المكتملة، ويرون أن العدول يُعتبر سببًا لعدم تطبيق العقوبة الحدّية إذا لم تكتمل الجريمة.
• المالكية والحنابلة: يرون أن العدول عن الجريمة يعكس ندمًا وتوبة، ولكنه لا يُسقط المسؤولية إذا أصيب المجني عليه بضرر.
العدول في الشريعة الإسلامية يعكس عمق الفهم الإنساني الذي يتمتع به التشريع الإسلامي، حيث يوازن بين تحقيق العدالة وإتاحة الفرصة للتوبة والإصلاح. العدول الاختياري يُظهر رحمة الشريعة وتوجهها نحو إصلاح الأفراد والمجتمع، بينما العدول الاضطراري يُظهر حزمها في التعامل مع من يحمل نية الإفساد. وبهذا، تبقى الشريعة الإسلامية نموذجًا مثاليًا في تحقيق العدالة المتوازنة التي تضمن حفظ الحقوق وإصلاح السلوك.
نسقه واعده الأستاذ/ ماجد بن عايد خلف العنزي