في ذلك الركن الهادئ من المسجد، حيث الضوء الخافت ينسكب على سجادة الصلاة، جلست أتأمل الليالي المتبقية من رمضان، لم يتبقَّ إلا العشر الأواخر، وكأنها آخر فرصة تُمنح لي قبل أن يُغلق باب الشهر الفضيل، كنت أشعر أن الزمن يتباطأ في تلك اللحظات، كأن الكون بأسره ينتظر شيئًا عظيمًا، لطالما سمعت عن فضل هذه الليالي، عن اجتهاد النبي ﷺ فيها، وعن لحظات الخشوع التي يعيشها المؤمنون، لكنني كنت أتساءل: هل سأعيشها كما ينبغي؟ هل سأدرك ليلة القدر؟ هل سأكون من الذين تُغفر لهم ذنوبهم؟ أسئلة كثيرة كانت تدور في رأسي وأنا أشاهد المصلين يتوافدون إلى المسجد، بعضهم يحمل مصحفه، والبعض الآخر يتمتم بأدعية خافتة، وكأن الجميع في سباق روحي لا يعرف الكلل، إنها ليلة القرار حينما أرخى الليل ستاره، وهدأت الأصوات من حولي، شعرت أنني أمام قرار لا يحتمل التأجيل،إن هذه الليالي ليست كسائر الليالي، إنها لحظات يختلط فيها الأمل بالخوف، وتتنفس القلوب أعمق ما فيها،حيث لم يكن هناك مجال للتردد، فالفرصة قد لا تتكرر.
توضأت ببطء، كأنني أريد لكل قطرة ماء أن تغسل همومي قبل أن تغسل وجهي ثم دخلت إلى المصلى، وكان الجو مشحونًا بسكينة عجيبة، كأن الملائكة تملأ المكان، في الركعة الأولى، كان قلبي ينبض بقوة، ودموعي تخذلني، لم أستطع إكمال السورة التي كنت أحفظها جيدًا، لقد شعرت أنني في حضرة الله، وأنني أخاطبه مباشرة، ليس بلساني، ولكن بقلبي وروحي، كنت أسمع الإمام يدعو بخشوع، فتبادر إلى ذهني حديث النبي ﷺ عندما سألته عائشة رضي الله عنها عن أفضل ما يُقال في ليلة القدر، فقال: “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني،“رددت الدعاء بصوت خافت، ثم بصوت أعلى، ثم شعرت أنني أتمتم به من أعماق روحي، وكأنني أتمسك به كمن يتمسك بآخر أمل له في هذه الحياة، بحثًا عن ليلة القدر، لم أكن أريد أن تفوتني تلك الليلة، ليلة لا تضاهيها ألف شهر، لكن كيف لي أن أعرفها؟ هل سأشعر بشيء مختلف؟، تذكرت ما قاله العلماء عن علاماتها، عن تلك السكينة التي تملأ القلب، عن الطمأنينة العميقة التي تحل على الإنسان، نظرت إلى السماء عبر النافذة الصغيرة في المسجد، كان ضوء القمر هادئًا، والهواء ساكنًا، وكأن العالم بأسره يتوقف للحظة، يتأمل وينتظر ، لقد تساءلت: هل هذه هي الليلة؟ لكن سرعان ما أدركت أن الأهم من ذلك هو الشعور الداخلي، الإحساس بأنني اقتربت من الله، أنني بذلت قصارى جهدي، أنني خضعت له بصدق لم أعشه من قبل، في الليالي التالية، كنت أتنقل بين القرآن والدعاء والقيام،و كنت أشعر أنني في رحلة عبر الزمن، حيث تتلاشى هموم الدنيا، ولا يبقى إلا نور الإيمان، كنت أعيد قراءة سورة القدر مرارًا وتكرارًا، وفي كل مرة كنت أكتشف فيها معنى جديدًا، وكأنها تتحدث إليّ شخصيًا، تخبرني أنني أمام فرصة لا تعوَّض، لقد رأيت رجلاً عجوزًا بجانبي، كان يبكي بحرقة، يرفع يديه في دعاء طويل، وكأن له قصة يخبر بها الله وحده، بجانبه كان شاب يقرأ القرآن بصوت خاشع، وعيناه تغرقان في الدموع، ثم نظرت حولي، فوجدت أن الجميع هنا يحملون أعباءهم، أحلامهم، آمالهم، ويضعونها عند أعتاب رحمة الله، راجين أن تُقبل أعمالهم، أن تُمحى ذنوبهم، أن تُكتب لهم بداية جديدة، إنه كلما اقتربت نهاية العشر الأواخر، شعرت بثقل الفراق، وكأن رمضان كان صديقًا عزيزًا سيغادرني قريبًا، كيف لي أن أعود إلى حياتي العادية بعد هذه الليالي؟ كيف لي أن أنسى الطمأنينة التي عشتها، واللحظات التي شعرت فيها أنني أقرب إلى الله من أي وقت مضى؟، مع اقتراب ليلة التاسع والعشرين، كنت أردد في داخلي: “يا رب، لا تجعل هذه الليالي تمر دون أن تغيرني، عندها ” أدركت أن العشر الأواخر ليست مجرد عبادات مكثفة، بل هي تغيير جذري، رحلة إلى أعماق الروح، اختبار حقيقي لمدى صدق الإنسان مع نفسه ومع ربه، في الليلة الأخيرة، نظرت إلى المصحف الذي لم يفارق يدي طوال الأيام الماضية، وأغلقت عيني للحظة، وكأنني أريد أن أحتفظ بهذا الشعور للأبد، لقد عاهدت نفسي أن أحمل معي شيئًا من روحانية رمضان،و أن لا يكون كل هذا الاجتهاد مجرد محطة عابرة، بل بداية لطريق أطول، ها هو رمضان يوشك على الرحيل، والعشر الأواخر تطوي صفحاتها الأخيرة، لكنني أعلم الآن أنني لم أكن أسابق الزمن، بل كنت أسابق نفسي، كنت أبحث عن النور الذي يسكن في أعماقي، وأحاول أن أضيئه من جديد، فيا من تقرأ هذه الكلمات، لا تدع العشر الأواخر تمر دون أن تعيشها بقلبك وروحك، لا تجعلها مجرد طقوس، بل اجعلها رحلة إيمانية تغيرك للأفضل، قد لا يكون هناك رمضان آخر، لكن ما زال أمامك هذه الليالي، فهل ستغتنمها؟
كتبه الأستاذ/ ماجد بن عايد خلف العنزي
Very good https://is.gd/tpjNyL
Awesome https://shorturl.at/2breu
Awesome https://lc.cx/xjXBQT