مقالات وقضايا

معنى علمه البيان

عبارة “علّمه البيان” وردت في سياق عظيم في سورة الرحمن، حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم:

﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن: 1-4).

وهي جملة قصيرة في مبناها لكنها غنية جدًا في معناها ودلالاتها. يتناول هذا المقال معنى “البيان” وأهميته من الجوانب اللغوية والشرعية والفلسفية والإنسانية.

أولاً: المعنى اللغوي للبيان

• الجذر اللغوي:

البيان مشتق من الجذر الثلاثي (ب ي ن)، وهو يدل على الظهور والوضوح. تقول: “بان الشيء” إذا ظهر واتّضح.

• في اللغة: البيان هو الإيضاح والفصاحة، ويُستخدم للدلالة على قدرة المرء على الإفصاح عن مكنونات نفسه وإظهار المعاني بدقة.

• في معاجم اللغة:

• يقول ابن منظور في “لسان العرب”: البيان هو “الإفصاح عن الشيء وإظهاره”.

• ويذكر الزمخشري في تفسيره أن البيان يشمل “كلّ ما يُظهر المعنى ويوضحه، سواء أكان بالكلام أم بالإشارة أم بالكتابة”.

ثانيًا: البيان في القرآن الكريم

• القرآن الكريم يستخدم لفظ “البيان” في مواضع تشير إلى قدرة الإنسان على التعبير الدقيق، وهو ما يُميّزه عن سائر المخلوقات.

معنى “علّمه البيان” في سياق سورة الرحمن:

• هذه العبارة تأتي ضمن تعداد نعم الله على الإنسان:

1. الرحمن: اسم جامع لرحمة الله الواسعة.

2. علّم القرآن: النعمة الكبرى، وهي الهداية من خلال الوحي.

3. خلق الإنسان: بيان النعمة الكبرى الأخرى، وهي الخلق نفسه.

4. علّمه البيان: إظهار التفوق الإنساني في القدرة على التعبير، التي تُمكّنه من إدراك القرآن وفهم آياته.

• الدلالة البيانية:

• القدرة على البيان هي مفتاح فهم الوحي الإلهي.

• وهي أيضًا وسيلة للتواصل بين البشر، ما يساهم في بناء الحضارات ونقل المعارف.

ثالثًا: البيان كميزة فريدة للإنسان

الله سبحانه وتعالى ميّز الإنسان عن غيره من المخلوقات بنعمة البيان، التي تمكّنه من:

1. التواصل اللغوي:

• الإنسان قادر على التعبير عن أفكاره ومشاعره من خلال الكلمات.

• هذه القدرة تشمل التنوع في اللغات والألسنة.

2. التواصل غير اللفظي:

• البيان لا يقتصر على الكلام، بل يشمل الإشارات والكتابة والرسم وغيرها من أشكال التعبير.

• حتى الصمت قد يكون بيانًا في بعض السياقات.

3. التفكير والتجريد:

• البيان يتطلب القدرة على التفكير المجرد وتحليل الأفكار.

• الإنسان قادر على تحويل الأفكار إلى رموز لغوية.

4. حفظ المعرفة ونقلها:

• الكتابة، التي تُعتبر شكلًا من أشكال البيان، ساهمت في حفظ العلوم والمعارف ونقلها عبر الأجيال.

رابعًا: الجوانب الشرعية والفلسفية للبيان

1. البيان في الشريعة الإسلامية:

• البيان نعمة تُحمّل الإنسان مسؤولية أخلاقية في استخدامها.

• يقول النبي ﷺ: “إن من البيان لسحرًا” (رواه البخاري ومسلم)، أي أن البيان قد يؤثر في النفوس كما يفعل السحر، سواء بالخير أو الشر.

• الاستخدام المحمود للبيان: الدعوة إلى الخير، نشر العلم، الإقناع بالحجة.

• الاستخدام المذموم للبيان: الكذب، التحايل، الفتنة.

2. البيان في الفلسفة الإنسانية:

• القدرة على البيان هي ما يجعل الإنسان كائنًا اجتماعيًا.

• الفيلسوف أرسطو اعتبر أن “اللغة والقدرة على البيان هي ما يُميز الإنسان عن الحيوان”.

3. البيان والقرآن:

• علاقة البيان بالقرآن علاقة وثيقة، لأن البيان هو الأداة التي يفهم بها الإنسان النصوص الإلهية ويستجيب لها.

• إعجاز القرآن الكريم نفسه قائم على فصاحته وبيانه.

خامسًا: البيان من منظور العلوم الحديثة

1. في علم اللغة:

• الإنسان يمتلك أجهزة فسيولوجية فريدة، مثل الحنجرة واللسان، التي تمكّنه من إنتاج الأصوات.

• اللغة تُعتبر أداة للبيان، وهي نتاج التفاعل بين العقل والجسد.

2. في علم النفس:

• البيان يعكس قدرة الإنسان على التعبير عن مشاعره وأفكاره.

• يُعتبر وسيلة للتنفيس عن الضغوط وبناء العلاقات الاجتماعية.

3. في علم الاجتماع:

• البيان هو أساس تشكيل المجتمعات والحضارات.

• من خلال البيان، يُعبّر الناس عن احتياجاتهم ويتفاوضون لحل النزاعات.

4. في التكنولوجيا:

• تطوّرت أدوات البيان مع التقدّم التقني، من الكتابة على الحجر إلى الطباعة ثم إلى وسائل الإعلام الرقمية.

سادسًا: تأملات روحية في “علّمه البيان”

• البيان كنعمة تستحق الشكر:

• إدراك نعمة البيان يدفع الإنسان إلى شكر الله الذي أسبغ عليه هذه النعمة.

• يُذكّرنا البيان بأهمية استخدام الكلمة في الخير.

• البيان كوسيلة للتأثير في الآخرين:

• قدرة الإنسان على الإقناع والتأثير بالكلام هي نعمة عظيمة وأمانة ثقيلة.

دلالة “علّمه البيان”

عبارة “علّمه البيان” تحمل دلالات عميقة ومتشعبة تظهر من خلالها عظمة الخالق سبحانه وتعالى في خلق الإنسان وتمييزه بنعمة كبرى تفتح له أبواب التفاعل مع نفسه ومع غيره ومع خالقه. يمكن تلخيص دلالات العبارة على النحو التالي:

1. دلالة التفرد الإنساني:

• البيان كخاصية إنسانية فريدة:

• تشير العبارة إلى أن الإنسان قد مُنح القدرة على البيان كميزة تميزه عن سائر المخلوقات.

• الحيوان قد يتواصل بطرق محدودة وغريزية، لكن الإنسان وحده يمتلك القدرة على التعبير التفصيلي عن الأفكار والمشاعر والمعاني بأساليب متنوعة.

• البيان كدليل على التكريم:

• البيان يمثل جزءًا من تكريم الله للإنسان، كما قال تعالى: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ” (الإسراء: 70).

• القدرة على البيان تجسد العقلانية والتجريد اللغوي، وهي أدوات منحها الله للإنسان لتُظهر مكانته.

2. دلالة الشمول في أشكال البيان:

• البيان اللغوي:

• يشمل القدرة على استخدام اللغة بوضوح ودقة، سواء كانت مكتوبة أو منطوقة.

• هذه القدرة تتنوع بين لغات وألسنة البشر المختلفة، مما يُظهر تنوعًا في الخلق وإبداعًا في التكوين.

• البيان غير اللغوي:

• لا يقتصر البيان على الكلمات، بل يشمل الإشارات، والإيماءات، والرسم، والتواصل الرمزي، وكل ما يمكن أن يُستخدم للتعبير عن الأفكار.

• البيان القرآني:

• من أعظم أشكال البيان هو البيان القرآني، الذي يجمع بين الفصاحة والإعجاز، ويُظهر هداية الله للإنسان.

3. دلالة تعليم البيان:

• البيان كتعليم إلهي:

• استخدام لفظ “علّمه” في الآية يُبرز أن هذه القدرة ليست مكتسبة أو عشوائية، بل هي منحة من الله وهبة إلهية تحتاج إلى التفكر والتقدير.

• الله هو الذي علّم الإنسان القدرة على التفكير والحديث والتعبير.

• التعليم التدريجي:

• “علّمه البيان” قد يشير إلى أن الإنسان يتدرج في فهم البيان واستخدامه، بدءًا من الأصوات الأولى في الطفولة، ثم تعلم اللغة، وصولًا إلى القدرة على التعبير المعقد.

4. دلالة البيان كوسيلة للفهم والتفاهم:

• أداة للفهم بين البشر:

• البيان هو أساس التفاهم الإنساني، إذ يمكن من خلاله إيصال الأفكار والمشاعر وحل المشكلات وبناء العلاقات.

• الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تعتمد كلها على البيان بوصفه وسيلة للتواصل.

• أداة لفهم الوحي الإلهي:

• البيان هو الوسيلة التي يُدرك بها الإنسان رسالة الله، من خلال فهم النصوص الشرعية التي تعتمد على اللغة والتعبير.

5. دلالة البيان كمسؤولية:

• الأمانة الأخلاقية للبيان:

• بما أن الله علّم الإنسان البيان، فهو مسؤول عن استخدامه في الخير والصلاح.

• البيان قد يُستخدم لنشر الحقيقة والهداية، أو قد يُساء استخدامه لنشر الكذب والفتنة، كما قال النبي ﷺ: “إن من البيان لسحرًا”.

• محاسبة الإنسان على بيانه:

• الكلمة أمانة عظيمة، قال تعالى: “مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ” (ق: 18)، مما يبرز أهمية أن يكون البيان صادقًا وهادفًا.

6. دلالة البيان في بناء الحضارة:

• البيان وحفظ المعرفة:

• من خلال البيان المكتوب (الكتابة)، استطاع الإنسان توثيق العلوم والمعارف، ونقلها بين الأجيال.

• البيان المكتوب هو الوسيلة التي حفظت بها الرسالات السماوية والموروثات الثقافية.

• البيان والإبداع:

• القدرة على التعبير مكّنت الإنسان من الإبداع الفني والأدبي، مما ساهم في تطور المجتمعات.

7. دلالة البيان كدليل على عظمة الخالق:

• إبداع الخالق في خلق الإنسان:

• القدرة على البيان تدل على حكمة الله في خلق الإنسان، الذي لا يملك فقط أعضاء تُنتج الأصوات، بل يمتلك عقلًا يُبدع الأفكار ويُنسقها.

• النظام العصبي المعقد والأجهزة الصوتية مثل الحنجرة واللسان كلها تعمل بتناغم لتنتج “البيان”، وهذا دليل على دقة الصنعة الإلهية.

• التكامل مع النعم الأخرى:

• نعمة البيان متصلة بنعم أخرى، مثل نعمة العقل ونعمة السمع والبصر، مما يظهر التكامل في خلق الإنسان.

“علّمه البيان” هي عبارة تجمع بين المعاني اللغوية، والفكرية، والروحية، والإنسانية. دلالتها تتجاوز مجرد القدرة على الكلام إلى كونها مفتاحًا لفهم الحياة والوحي الإلهي، وأداة لبناء المجتمعات، ومسؤولية أخلاقية عظيمة.

تأمل هذه العبارة يقود الإنسان إلى شكر الله على نعمة البيان، وإدراك أهميتها في إعمار الأرض وتوظيفها في الخير والحق.

“علّمه البيان” هي عبارة جامعة تُبرز جانبًا عظيمًا من التميّز الإنساني الذي أكرمه الله به. البيان ليس مجرد قدرة على الكلام، بل هو أداة لفهم الحياة، وإدارة العلاقات، وبناء الحضارات. ومن خلال البيان، يستطيع الإنسان أن يفهم رسالة الله في القرآن، وأن ينقلها إلى الآخرين، وأن يعمّر الأرض.

لذا، فإن البيان نعمة عظيمة، لكنها أيضًا مسؤولية عظيمة؛ فالإنسان محاسب على كلماته، وعليه أن يستخدمها للخير والحق.

نسقه واعده الأستاذ/ ماجد بن عايد خلف العنزي

اترك رد

WhatsApp chat