خمسينية الشتاء هي واحدة من أبرز الظواهر الموسمية التي تُميز فصل الشتاء في التراث الشعبي العربي. تمتد هذه الفترة على مدار 50 يومًا، وتتسم ببرودة قاسية وأحداث طقسية فريدة تشكل جزءًا لا يتجزأ من ثقافة المجتمعات الزراعية والرعوية في مناطق مختلفة من الوطن العربي. تُعرف خمسينية الشتاء ليس فقط بتغيراتها المناخية، ولكن أيضًا برمزيتها العميقة في حياة الناس وتفاعلهم مع الطبيعة.
ما هي خمسينية الشتاء؟
خمسينية الشتاء هي فترة زمنية تُحسب منذ نهاية ما يُعرف بـ”المربعانية”، وهي أول موجة شديدة البرودة من الشتاء، وتستمر لمدة خمسين يومًا. يتم تقسيم هذه الفترة إلى أربع مراحل، تُسمى كل منها “سعودًا”، ولكل سعد منها طابع خاص يتعلق بالطقس وتأثيراته على الأرض والطبيعة والحياة اليومية.
التقسيمات الأربعة لخمسينية الشتاء:
1. سعد الذابح (12.5 يوم):
• الاسم والمعنى: يُقال أن هذا الاسم يأتي من شدة البرد خلال هذه الفترة، حيث يوصف البرد بأنه “يذبح” لشدة قسوته.
• الطقس: تنخفض درجات الحرارة إلى مستويات قياسية، مما يجعل هذه الفترة الأكثر برودة على مدار العام.
• الحياة اليومية: يلجأ الناس خلالها إلى تدابير شديدة للتدفئة، مثل إشعال النيران، والاحتماء في المنازل الدافئة، مع زيادة استهلاك الأطعمة الساخنة والمشروبات التي تساعد على مقاومة البرد.
2. سعد بلع (12.5 يوم):
• الاسم والمعنى: يُقال إن الأرض تبدأ خلال هذه المرحلة بـ”بلع” مياه الأمطار.
• الطقس: تهطل الأمطار بغزارة أحيانًا، وتبدأ الأرض في تشربها، مما يجعلها فترة حيوية للمزارعين.
• الحياة اليومية: تتركز الأنشطة حول الزراعة وتحضير الأرض للمواسم القادمة، حيث تزداد الآمال في موسم زراعي ناجح.
3. سعد السعود (12.5 يوم):
• الاسم والمعنى: يُعرف بأنه بداية الازدهار التدريجي بعد البرد، حيث يبدأ الدفء البسيط في العودة تدريجيًا.
• الطقس: تزداد ساعات النهار، وتنخفض حدة البرودة تدريجيًا.
• الحياة اليومية: يُقال في الأمثال: “في سعد السعود، يدبّ الماء في العود”، حيث تبدأ النباتات في النمو، وتبشر الطبيعة بالحياة الجديدة.
4. سعد الخبايا (12.5 يوم):
• الاسم والمعنى: سميت بذلك لأن الكائنات التي اختبأت طوال الشتاء، مثل الحشرات والزواحف، تبدأ بالخروج من جحورها.
• الطقس: تكون الأجواء أقل برودة مع بداية ظهور علامات الربيع.
• الحياة اليومية: يتهيأ الناس لاستقبال فصل الربيع من خلال تنظيف الحقول والمزارع، واستعداد الحيوانات للرعي بعد الشتاء الطويل.
الأهمية الزراعية لخمسينية الشتاء:
تُعتبر خمسينية الشتاء من الفترات الحاسمة في حياة المزارعين، حيث تعتمد زراعة العديد من المحاصيل الشتوية على وفرة الأمطار وامتصاص الأرض للماء. خلال هذه الفترة، يتم تحديد مدى نجاح الموسم الزراعي من خلال كمية الأمطار وجودتها. كما أن الاستعدادات للربيع تبدأ خلال سعد السعود والخبايا، مما يجعل خمسينية الشتاء محطة انتقالية بين مواسم الزراعة.
رمزية خمسينية الشتاء في الثقافة الشعبية:
لطالما كانت خمسينية الشتاء جزءًا من الذاكرة الشعبية، حيث ارتبطت بالأمثال والأقوال المأثورة التي تعكس حكمة الأجداد وتجاربهم مع الطبيعة. ومن هذه الأمثال:
• “في سعد السعود، يدب الماء في العود.”
• “في سعد الذابح، ما يخلي للحطّاب مصلحة.”
• “في سعد بلع، تبلع الأرض المطر بلعاً.”
هذه الأمثال تعبّر عن فهم عميق للطبيعة ودورتها، كما تعكس قدرة الإنسان على التأقلم مع التغيرات المناخية.
التحديات التي تواجه الناس في خمسينية الشتاء:
1. البرد القارس:
يجعل انخفاض درجات الحرارة هذه الفترة صعبة، خاصة في المناطق التي تفتقر إلى وسائل التدفئة الحديثة.
2. الأمطار الغزيرة:
على الرغم من أهميتها للزراعة، إلا أن الأمطار الغزيرة قد تسبب فيضانات في بعض المناطق، مما يؤدي إلى تحديات لوجستية واقتصادية.
3. التنقل:
تعيق الظروف الجوية القاسية حركة التنقل والعمل في الخارج، مما يدفع الناس إلى تقليل أنشطتهم اليومية.
الجانب الإيجابي لخمسينية الشتاء:
على الرغم من قسوة الطقس، إلا أن خمسينية الشتاء تمثل فترة تواصل اجتماعي قوي، حيث يقضي الناس وقتًا أطول مع العائلة داخل المنازل، يشاركون الأحاديث والذكريات، ويتبادلون الأطعمة الشتوية الدافئة مثل الحساء، الشاي، والقهوة. كما أن هذه الفترة تمثل استراحة للمزارعين قبل انطلاق موسم الزراعة النشط.
تظل خمسينية الشتاء رمزًا لترابط الإنسان مع الطبيعة وتغيراتها. إنها فترة تحمل في طياتها قسوة الطقس وجماله في آن واحد، حيث يتحد الناس لمواجهتها بذكائهم الفطري وحكمتهم التي توارثوها عبر الأجيال. وبينما نعيش هذه الفترة، نستمتع بدفء الذكريات، ونتطلع إلى بشائر الربيع القادمة التي تحمل معها وعدًا بحياة جديدة.
خمسينية الشتاء ليست مجرد أيام باردة، بل حكاية طويلة عن الصبر والتأقلم، وعن قدرة الإنسان على إيجاد الجمال حتى في أشد الظروف.
نسقه وأعده الأستاذ/ ماجد بن عايد خلف العنزي
